الدكتورأحمد أديب أحمد*- "الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها" حديث استُخدم مؤخراً بشكل واسع، وهو منسوب لرسول الله "ص" ومشهورٌ بضعفِ سَنَدِهِ، وهو يخدمُ سياسةَ الاستيعاب الديني والمذهبي سواء بالترهيب أو بالترغيب.
وسياسةُ الاستيعاب الديني ليست بجديدة، فهي امتدادٌ لما كان يجري سابقاً في العصور الأموية والعباسية والعثمانية. فقد كان المجتمع الإسلامي يعاني من سياسة نشر الدين بالقوة، ومحو الآخر، فعلى الجميع أن يوالي معاوية ويزيد ويعادي علياً والحسين "ع" في زمن الأمويين الذي شاعت فيه مسبة أمير المؤمنين الإمام علي كرم الله وجهه على المنابر لألف شهرٍ، حتى أنَّ مَن كلَّفه معاوية بأخذ البيعة ليزيد أمسكَ بيده صُرَّةً من المال وبيده الأخرى سيفاً وقال: "مَن بايعَ فله هذا" وأشار بيده إلى المال، "ومن لم يبايع فله هذا" وأشار بيده إلى السيف!!
لم تُسمَّ مسبَّةُ الأمويين للإمام علي كرم الله وجهه بالفتنة!! بل اتُّهم أصحابه الموالون له بأنهم يفتنون الناس في علي علينا سلامه!!
ولم تسمَّ بيعة يزيد اللعين فتنة، لكنهم أطلقوا على ثورة الإمام الحسين "ع" اسم الفتنة!!
ولم يسمَّ بطش العباسيين بأتباع أهل البيت "ع" فتنة، لكنهم أطلقوا على احتجاجات الأئمة وأصحابهم على المذاهب الحائدة اسم الفتنة!!
ولم تسمَّ مجازر العثمانيين بالعلويين في سورية فتنة، بل زعموا أنَّ وجودَ العلويين بحد ذاته فتنة ويجب وأدها أي قتلهم!!
واستمر الصراع بين أهل الباطل الذين حازوا الجاه والمال والسلطة، وبين أهل الحق القلة الذين كلما حاولوا أن يُعلوا كلمة الحق اتُّهموا بالفتنة وسُلَّت عليهم سيوف الظلم والاستبداد. وما زال يُقال في وجه من يدافع عن الحق: "الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها"!!
كلمة حق يراد بها باطل، ليشرِّعوا إسكاته وإطفاء نوره، وأما الفتنة الحقيقية فتُروى وتُرعى وتنمو وهي المتمثلة بالباطل الذي نراه يُنشر بسياسة السيف أو بسياسة الاستيعاب..
فدعوةُ كلٍّ من داعش وجبهة النصرة والوهابية والإخوان المسلمين لاستيعاب الطائفة السنية.. هي فتنة.. والدليل ما نتج مؤخراً عن مؤتمر جروزني في الجمهورية الشيشانية من إخراج للوهابية من دائرة أهل السنة والجماعة وبتأييد من مفتي الأزهر.
وكم اعتزَّ مفتي الجمهورية العربية السورية الشيخ أحمد بدر الدين حسون بإسلاميته الشامية المعتدلة فاتهموه بالفتنة!! والحقيقة أن الفتنة الحقيقية هي اعتراض الوهابية والإخوان المسلمين على المسار المعتدل الذي يسلكه، حتى كان من نتائج فتنتهم المغرضة استشهاد الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي الذي كان داعياً للتمسك بالوطن والجيش فاعتبروه مفتناً وقتلوه في المحراب بتفجير إرهابي.
فانظروا كيف يقلبون الحقائق ويلبسون الحق بالباطل مع أن الله تعالى يقول: "وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ".
فليس من الفتنة أن يعتزَّ القائد بشار الأسد بالعروبة الصافية ويتمسك بدفة القيادة لبلده لضمان حمايته من التقسيم والإرهاب، وليس من الفتنة أن يعتز سيد المقاومة حسن نصر الله بانتمائه لشيعة الإمام الحسين "ع" ويتحلى بأخلاق أهل البيت "ع"، وليس من الفتنةِ أن يعتزَّ السُّنيُّ بسنيَّتِهِ والشِّيعيُّ بشيعيَّتِهِ والدُّرزيُّ بدرزيَّتِهِ والمسيحيُّ بمسيحيَّتِهِ، وليس من الفتنةِ أن نعتزَّ بعلويتنا المتجذرة بانتمائنا للإمام علي والحسن والحسين والتسعة من بعد الحسين "ع"، بل الفتنة هي اعتراض مَن يريد إخراجنا من دين الإسلام!!
فمن حق كلِّ إنسانٍ أن يعتزَّ بانتمائه الوطني والديني، ويلتزم بعبادته وإقامة طقوسه وعاداته وفقاً لتربيته وقناعاته مع وجوب احترام هذه العبادات والطقوس والعادات من قبل الآخرين حتى يبادلهم الاحترام نفسه، لذلك فإنني أجد أن المعيار لا يكون في أن ننفي وجود الطائفية ونكذب على أنفسنا وعلى الآخرين، ولا يكون في أن يتنكر كلٌّ منا لطائفته ويستحي منها، بل الواجب أن نستحي من الظلم والنفاق والرياء لقول الإمام علي زين العابدين "ع": "ليس من العصبية أن يحب الرجل قومه، لكن العصبية أن يرى شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين"، فمحبة القوم جائزة وواجبة، لكن التعصب للأشرار هو المرفوض لأنه الفتنةُ العمياء التي تتمثل بتكفير الآخرين والدعوة لقتلهم.
فالحق المشروع أن يقف الإنسان مدافعاً عن الحق وعن وجودِهِ، ولا يهمُّ إن اتُّهم بإشعالِ الفتنة أو لا!!
ولَطالما رد السيد أبو شعيب محمد بن نصير على أهل الغلو، وأوضحَ السيد الحسين بن حمدان الخصيبي الحجَّةَ بكل جرأة في كتابه الهداية الكبرى، فكان ذلكَ مصدراً لاعتزازنا بتمسكنا بنهجهما الموافق لنهج أهل البيت "ع"، فكانت الفتنة الحقيقية هي اعتراض مَن عاداهما من متطرفي الشيعة والسُّنة الخارجين عن النهج العلوي الوسطي الحقيقي، لذلك حاربونا لمقولتنا: "نحن الأصل وخاصة الخاصة عند الأئمة، ولسنا مقصِّرة ولا حشويَّة ولا منخنقة ولا غلاة"، فلماذا يعترض المرتزقة المنتفعين من الأموال المغدقة عليهم من مؤسسات الفتنة الضخمة التي تسعى لنشر البدع والشبهات وتفتيت الصفوف.. ليدقوا إسفين الجهل والتبعية والجبن والخوف في صفوف شبابنا؟
ولابد من الإشارة إلى أن سياسة المدِّ الشيعي التي تسعى لها بعض التيارات الشيعية المتطرفة هي فتنة، منها مَن يرعاها ويدعمها الغرب في لندن، وتتبناها بعض المجمعات الدينية والمدارس الشرعية التي تدعو للتشيع في سورية ويلتحق بركبِهِا أصحاب النفوس الضعيفة الذين تم شراؤهم بالمال. والدليل على أنها فتنة هو مخالفتهم لسياسة الإمام روح الله الخميني والإمام علي الخامنئي الداعية للتحالف والتعاطف مع المذاهب المختلفة واحترامها، وليس إلى محاربتها أو محاولة صهرها في المذهب الشيعي.
أقول أخيراً:
إن شهداءنا في سورية لم يكونوا داعينَ للفتنة حتى قتلوهم!! وكذلك لم يكن شهداء المجاهدين من حزب الله داعين للفتنة حتى قتلوهم!! وكذلك لم يكون الشهداء الإيرانيون أو الروس الذين سقطوا في سورية وهم يحاربون الإرهاب داعين للفتنة حتى قتلوهم!! على عكس مَن فجَّروا أنفسهم وقتلوا الأبرياء واغتصبوا النساء ومثَّلوا بالجثث من الإرهابيين التكفيريين أصحاب الفتنة الحقيقية.
فالجرأة والقوة والمبادرة والإيضاح والصدق وقول كلمة الحق ليست فتنة، لكن الفتنة هي الخوف والجبن والضعف والتلكؤ والإبهام والكذب والنفاق والمجاملة، ونحن قومٌ نقتدي بقول مولانا الإمام علي كرم الله وجهه: "لأبقرنَّ الباطل حتى أخرج الحقَّ من خاصرته".
ولله درُّ أبي النواس المتَّهم بفتنة الخمر لأنه المخلص بإيمانه الذي مدح به الإمام علي الرضا "ع" بأجمل الشعر قائلاً:
"مطهرون نقيات ثيابـهـم
تجري الصلاة عليهم أينما ذكروا
من لم يكن علوياً حين تنسبه
فما له في قديم الدهر مفتخر
والله لما برا خلقاً فأتقنه
صفاكم واصطفاكم أيها البشر
فأنتم الملأ الأعلى وعندكم
علم الكتاب وما تأتي السور".
......................................................
* كاتب ومحاضر وباحث ديني علوي سوري، من مواليد دمشق عام 1979م، يعمل مدرساً في كلية الاقتصاد بجامعة تشرين في سورية. له العديد من الكتب والمؤلفات والأبحاث المنشورة وقيد الإنجاز في المجالات الدينية والأدبية والاقتصادية والعلوم الإنسانية وفي مجالات أخرى، منها: "نور الهداية لأهل الولاية"، "نبض لصفصاف الفضاء"، "نهر العسل"، "مناجاة مع قائد الأمة"، "الاقتصاد السياحي".
المقال لا يعبر عن رأي وكالة مهر للأنباء
تعليقك